مواقع التواصل الاجتماعي.. من منابر للثورة والتغيير إلى «صناعة الإجماع»

img

مواقع التواصل الاجتماعي.. من منابر للثورة والتغيير إلى «صناعة الإجماع»


أثارت تصريحات المديرة التنفيذية لمنصة «يوتيوب» غضب الكثير من أصحاب القنوات المهتمة بالشأن السياسي، إذ قالت في لقاء مرئي لها مع مجلو «أتلانتيك» بأن «يوتيوب» ليس له موقفٌ واحدٌ من جميع القنوات، بل يروّج لتلك التي تنتمي إلى ما أسمته «المصادر الموثوقة» لتصديرها بشكل أكبر للمشاهد بدلًا عن قنوات «يوتيوب» الجديدة أو التابعة للأفراد.


يشتكي صنّاع المحتوى منذ سنوات من التمييز ضد محتواهم من منصة «يوتيوب»، إذ تصعّد المنصة المقاطع المنشورة من الجهات الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة مثل «سي إن إن»، أو «فوكس نيوز»، وغيرها من المنصات الإعلامية الضخمة ليدفن أصحاب القنوات المستقلة ويتراجع تصنيف قنواتهم لعدم ظهورها في واجهة الموقع أو قسم «الأكثر مشاهدة»، وهو ما يعتبره أصحاب هذه القنوات تمييزًا صارخًا ضدّهم لصالح الشركات الإعلامية رغمَ إيراداتها الضخمة، والمرتبطة بشكل كبير بالنخب السياسية الحاكمة، ما يوفّر دائمًا الأفضلية لهذه الشركات، ويناقض طبيعة منصة «يوتيوب» والانترنت عمومًا، إذ لطالما كانت رغبة المستخدمين مع جودة المحتوى معيارًا أساسيًا لانتشاره.



أكّدت هذه التصريحات من المديرة التنفيذية لـ«يوتيوب» اتهامات من قنوات مستقلة تناقش الشؤون السياسية، اتهمت المنصة باستخدام خوارزمية خاصة تستهدف محتواهم وتعمل على دفنه، مع إبرازها لمقاطع تروّج للآراء التقليدية في المسائل المطروحة، لتكريس حالة من «صناعة الإجماع» كما يسمّيها نعوم تشومسكي، المفكر الأمريكي التقدمي، رغم أن كتابه الذي يحمل نفس العنوان، «صناعة الإجماع»، تحدّث حصرًا عن الإعلام السائد آنذاك، الإعلام التقليدي من تلفزيون وراديو وصحف، ولكن الإنترنت الوسيط الذي كان يجب أن يقضي على هيمنة الوسائط التقليدية والمُحتكرة، تحوّل إلى حدّ كبير لأداة لـ«صناعة الإجماع» وخلقه.


وبعد انطلاقه عامَ 2005 صارَ «يوتيوب» بالنسبة للكثيرين نافذة لتجاوز القنوات التقليدية وأجندتها السياسية المراقبة وقاعات التحرير الضخمة، فللجميع حقُّ تأسيس قناة وعرض آرائهم وأفكارهم ومحتواهم الأصيل كما يشاؤون، لتتحوّل المنصة في غضون سنوات قليلة إلى ناقلٍ مجانيّ لصوت المواطن البسيط الذي لا يحتاج إلا لكاميرا ليخاطب العالم.


مواقع التواصل الاجتماعي.. من منابر للثورة إلى «صناعة الإجماع»

مثّلت مواقع التواصل الاجتماعي في بدايتها ثورة في عالم الاتصال، سمحت للكثيرين بنشر آرائهم وأفكارهم دون إجراءت معقّدة أو مكلفة مثل افتتاح جريدة أو قناة تلفزيونية، وصارت أداةً ثمينة للتيارات السياسية المعارضة أو الأقليّات المهمّشة، لتجاوز تعتيم السلطة وتضييقاتها لمنعهم من إيصال آرائهم إلى قطاعات شعبية أوسع.



لعبت هذه المنصّات دورًا محوريًا خلال أحداث الربيع العربي عام 2011، ونعرف كيف استخدم النشطاء منصات «تويتر» و«فيسبوك» للحشد والتنظيم والدعاية للتظاهرات، ونشر وتوثيق انتهاكات وقمع رجال الشرطة للمواطنين، مع نشر المظاهرات والاحتجاجات التي أشعرت المتعاطفين بأنهم ليسوا الوحيدين الذين يرون أن الوقت حان للتغيير، وبالطبع سمحت وسائل التواصل بتجاوز التعتيم الذي شهدته الأجهزة الإعلامية التقليدية، وتجاهلها العمدي لأخبار المظاهرات.


أدت مواقع التواصل الاجتماعي إلى «دمقرطة الإعلام»، وسمحت بتجاوز العراقيل البيروقراطية والسلطويّة والمالية، وبرز مفهوم جديد لـ«صحافة المواطن»، الذي يستطيع لوحده تجاوز ترسانات إعلام السلطة، وأصبح مجرد امتلاك هاتف ذي كاميرا واتصال بالإنترنت ينافس جرائد وقنوات كبرى في نقل الحدث.


ولكنّ تحوّلًا ملموسًا طرأ على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصًا بعد تضخّمها الشديد وتحوّلها إلى شركات تقدّر رؤوس أموالها بمليارات الدولارات، ودخل مستمثرون مجالس إداراتها، وربما أبرزهم الأمير السعودي الوليد بن طلال، بشرائه لـ17% من أسهم شركة «تويتر»، أو إرسكين بولز، عضو مجلس إدارة «فيسبوك» وكبير موظّفي البيت الأبيض سابقًا، لمدة عامين، في رئاسة بيل كلينتون.


دخول الأموال الطائلة إلى سوق التطبيقات، وثراء أصحابها ليكونوا من كبار أثرياء العالم، جعل مصالح مواقع التواصل الاجتماعي الباحثة عن الانتشار الأوسع وأرباح الإعلانات، رهينةً لأصحاب الأموال والسلطة، خصوصًا أن الإعلانات ونشرها هي المصدر الرئيس لدخل هذه المواقع، إذ تمثّل الإعلانات 98% من مصادر دخل شركة «فيسبوك»، وقيمة دخلها على «فيسبوك» وصلت إلى 84 مليار دولار في سنة 2020، أما دخلُ الإعلانات ليوتيوب في الربع الأخير من سنة 2020 فقد بلغت 6.9 مليار دولار، وبالتالي يملكُ المعلنون أوراق ضغط وتحكّمًا واسع فيما يُعرض في هذه المنصات وما يُمنع.


صحيح أن دخول المُعلنين كان مُربحًا لأصحاب القنوات في «يوتيوب»، ما سمحَ لهم بتركيز مجهوداتهم على صناعة محتوى أعلى جودة، ولكن الجانب المظلم كان في تأثير المال وسيطرته على صناعة القرار في هذه المؤسسات، على حساب المبادئ الأساسية التي قام عليها الإنترنت: المساواة، والحرية، والديمقراطية بين المستخدمين.


وتبرزُ هنا الحادثة المعروفة باسم «Adpocalypse»، حين قرّرت شركة «يوتيوب» فجأة عامَ 2017 سحب إعلاناتها من جميع القنوات التي تقدّم محتوى سياسيًا قد يثير الجدل، مثل الحديث عن الحروب والأسلحة، أو الإجهاض، أو قضايا سياسية شائكة، مثل القضية الفلسطينية وغيرها، وذلك لضمان عدم إغضاب المُعلنين، ما أدى لتراجع دخل الكثير من أصحاب القنوات الذين اعتمدوا في معيشتهم بشكل رئيس على مداخيل قنواتهم في «يوتيوب».


كان للعالم العربي حصته من هذا التحوّل، فبعد أن كانت المنصة في نسختها الأوليّة ملاذًا للتيارات المعارضة، وساهم الإنترنت – حسب باحثين – في تعزيز المسار نحو الوصول إلى لحظة الربيع العربي في 2011، عبر حركة المدوّنين وشنطاء الإنترنت الذين كانوا ينشرون صور ومقاطع التعذيب في أقسام الشرطة المصرية على سبيل المثال.


أخذت الأنظمة زمام المبادرة، واستطاعت في العديد من البلدان السيطرة على هذا «الانفلات» الذي كانت تعرفه مواقع التواصل، وذلك إما من خلال استخدام الحجب والتعتيم على حسابات المعارضين وإغلاقها، أو من خلال ما يُعرف بـ«اللجان الإلكترونية» أو «الذباب الإلكتروني»، وهي مجموعة كبيرة من الحسابات المزيّفة التي تعمل على تسميم هذه المواقع بإغراقها بالمحتوى الكاذب أو بالشتائم والإساءات.


وفي الوقت الذي تؤكّد شركات مثل «تويتر» و«فيسبوك» على أنها تبذل جهودًا دوريّة لمحاربة الحسابات والصفحات التي تنشر الأخبار الكاذبة والمضلّلة، وتنشر تقارير شهرية حول جهودها في هذا الشأن.


لكن هنالك حوادث تشير إلى تواطئ هذه الشركات مع الأنظمة السياسية في إغلاق بعض الحسابات، من بينها حجب حساب «قناة الجزيرة» على منصة «سنابشات» وذلك بعد طلبات من الحكومات البحرينية والسعودية والإماراتية.


ومنذ الانتخابات الأمريكية في سنة 2016، واتهامات لروسيا باستعمال مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التلاعب بنتائج الانتخابات، بدأت مواقع التواصل الاجتماعي بحملات كبيرة لمحاربة الأخبار الكاذبة والمعلومات المضلّلة، ولكن تقارير أكدت أن الأنظمة السلطوية استخدمت هذه الذريعة من أجل إسكات الأصوات المعارضة، وأصبحت تتّهم ذوي الرأي الآخر بـ«الأخبار الكاذبة» والتضليل.


وأشار تقرير لموقع «The Conversation» إلى أن العديد من البلدان التي شرّعت قوانين لمحاربة الأخبار الكاذبة، يمكن أن تهدد حريّة التعبير وحتى استهداف المحتوى المعارض، ينطبقُ هذا على سنغافورة وروسيا ماليزيا بحسب التقرير، وله آثارٌ سيئة على الإعلام في ألمانيا، بعدما فرضت قانون يمنعُ نشرَ محتوى فيه «خطاب كراهية أو معلومات مضللة»؛ ما جعل منصات التواصل الاجتماعي شديدة الحذر في السماح للمحتوى الإخباري بالانتشار، حتى لو كان هذا المحتوى قانونيًا.


القضية الفلسطينية.. أبرز ضحايا الرقابة في مواقع التواصل

لعلّ أكبر ضحايا هذا التحوّل الذي طرأ على مواقع التواصل الاجتماعي، هو المحتوى الفلسطيني في هذه المنصّات؛ إذ بلغت الرقابة والتعتيم المسلّطة على أي محتوى يناقش القضية مستويات قياسيّة، خصوصًا بالنظر إلى المعاملة التي يصفها البعض بالتفضيلية من طرف فيسبوك تجاه اسرائيل. وكانت شركة «فيسبوك» قد أرسلت وفدًا إلى اسرائيل في سبتمبر (أيلول) 2016 لمقابلة شخصيات حكومية، للتنسيق لضمان التعاون بين الطرفين.




ويذكرُ تقرير لـ«معهد الجزيرة للإعلام» أن عام 2014 كانت فارقًا في استخدام الفلسطينيين لموقع «فيسبوك»، خصوصًا خلال العدوان الإسرائيليّ ضد قطاع غزة في صيف ذلك العام، حين استخدم النشطاء الفلسطينيون مواقع التواصل الاجتماعي لتوثيق ونشر انتهاكات الحرب وأخبار الضحايا والغارات الاسرائيلية، واستغلّوا السرعة وسهولة النشر التي تتّسم بها مواقع التواصل الاجتماعي لكسر الحصار الأمني على قطاع غزّة، وكشف التقرير عن وقوع 300 حالة اعتقال نفّذتها السلطات الاسرائيلية ضد فلسطينيين بسبب منشوراتهم على مواقع التواصل.


ولكن حدث تغيّر في تعاطي إسرائيل مع ما يُنشر في الموقع، فبدلًا عن اعتقال أصحاب المحتوى، عملت إسرائيل على التنسيق مباشرة مع المنصة لحجب المحتوى الفلسطيني والتضييق عليه في مواقع التواصل، بتشكيل لجنة وزارية تتولى التواصل مع مواقع التواصل الاجتماعي في عامَ 2016.


ونجحت إستراتيجية التعتيم إلى حدّ كبير، فالمحتوى الذي يناقش القضية الفلسطينية أو تطوراتها أو تاريخها، مُهدد اليوم بالحذف عن المنصات ثم الحظر، ومثال على هذا التضييق هو إغلاق صفحة «المركز الفلسطيني للإعلام» بعد وصول الصفحة إلى 5 مليون مُعجب، وغيرها من آلاف الصفحات الفلسطينية التي عانت نفس المصير، وأشارت مصادر إلى إغلاق أكثر من 500 صفحة وحساب فقط في عام 2019. ويحاول النشطاء التحايل على خوارزميات الموقع من للوصول إلى المتابعين، وأطلقت الصفحات الفلسطينية والنشطاء ووسائل الاعلام المتواجدة على مواقع التواصل الاجتماعي وسمًا بعنوان «UnmutePalestine»، ووسومًا أخرى مثل «فيسبوك يحجب فلسطين – FBcensorsPalestine».


وأي محتوى ناقدٍ لإسرائيل، أو صفحة تعمل على نشر الانتهاكات ضدّهم، أو حتى الحسابات الشخصية التي تعرض صور المقاومين الفلسطينيين مثل صورة يحيى عيّاش، أو حتى مجرد ذكر اسمه، تكونُ مهدّدةً بالإغلاق المباشر.


«تويتر» هو الآخر متّهم بالتحيّز ضد المحتوى الفلسطيني في موقعه، خصوصًا بعد إغلاق لحسابات «شبكة القدس الإخبارية» على سبيل المثال.


وبعد انطلاق مظاهرات الحراك الجزائري في 219، تظاهرت الجالية الجزائرية في العديد من البلدان الأجنبية، مثل بريطانيا، وإسبانيا، وباريس، وأمريكا، قد تظاهروا أمام مقرّات شركة «فيسبوك»، واتهموها بممارسة الحجب والتعتيم ضد حسابات النشطاء الجزائريين المشاركين في الحراك الشعبي، بينما أبقت ذات الشركة على صفحات «الذباب الإلكتروني» التي تنشر الأخبار الكاذبة، وخطاب الكراهية والعنصرية.


وشهدَ موقع «فيسبوك» بعد انطلاق الحراك الجزائري في فبراير (شباط) 2019، موجةً من الحسابات تنشر محتوىً ذا طبيعة عنصرية، أو تصريحات مُضللة منسوبة للمُعارضة الجزائرية والحراك، وتتعرّض الكثير من الصفحات الناقلة لأخبار الحراك لحملات تبليغ، تؤدّي في كثير من الحالات إلى إغلاقها.


مواقع التواصل الاجتماعي اتخذت إجراءات غير مسبوقة أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت في خريف 2020، خصوصًا أثناء فرز النتائج، وعدم اعتراف الرئيس السابق دونالد ترامب بها، والاتهامات التي أطلقها بالتزوير، إذ قامت بحجب تغريداته، وإرفاقها برسائل توضيحية تؤكّد عدم دقّتها، وحتى اعتبارها «أخبارًا كاذبة»، وهو ما شكّل سابقة في تعامل هذه المواقع مع المحتوى السياسي.




حجب موقع «تويتر» تغريدات الرئيس ترامب حول الانتخابات مع رسالة تحذيرية تفيد عدم دقّة محتواها


ثم في يناير 2021 وبعد الهجوم على مقر الكونجرس، قرّر موقع «تويتر» إغلاق حساب ترامب بشكل دائم، في سابقة غير معهودة، لاعتبار تغريداته محرضةً على العنف.


وحذّر مراقبون من خطورة هذا الإجراء على حريّة التعبير، الذي مسّ العديد من أنصار الرئيس ترامب، خصوصًا أنّه لم يستثن حتى رئيس الولايات المتّحدة نفسه، رغم ما يمتلكه من شهرة وسلطة سياسية، ونبّهوا إلى القوّة المتزايدة التي تملكها وسائل التواصل الاجتماعي وعدم خضوعها لأي نوع من أنواع الرقابة أو المساءلة أمام الجهات الحكومية، باعتبار أنها شركات خاصّة.


وكشفت الحرب الأخيرة في فلسطين، مع محاولات التهجير القسري لأهل حي الشيخ جراح، عن تجذّر السياسات المناوئة للمحتوى الفلسطيني والقضية الفلسطيني في وسائل التواصل الاجتماعي، يقابلها صمتٌ تام عن التحريض الإسرائيلي على العنف عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل الدعوة بوضوح لقتل الفلسطينيين والتخطيط لتفاصيل الهجوم عليهم، كما يكشفُ تقريرٌ لـ«ساسة بوست» من داخل المجتمع الإسرائيلي على منصات التواصل.